هو الشاب الأمريكي الذي وقع في غرام ” اللغة العربية ” منذ ٧ سنوات.
في سبعة أعوام فقط تحول من طالب أمريكي قرر أن يدرس اللغة العربية في جامعة كاليفورنيا – دافيس وهو لا يعرف حتى أنها لغة تكتب وتقرأ من اليمين إلى اليسار – إلى طالب متخرج ودارس لماجستير تدريس اللغة العربية. ليس فحسب، بل إلى قصّاص يكتب القصص القصيرة باللغة العربية حيث إنه عاشق للأدب العربي وللثقافة العربية وفنونها.
إنه استفان ماريو سانشيز … الذي أجريت معه هذا الحوار ولمدة ساعتين وهو يحكي ويسترسل باللغة العربية، حوار ممتع والأكثر إمتاعاً عندما أشاهد وأعايش هذا التطور عبر السنوات الأربعة الماضية التي عرفت فيها اِستفان، وفي العام الأخير حيث كان يدرس بين الأردن وأمريكا لم نلتق، وعندما التقينا، كانت المفاجأة.
بالنسبة لي – اِستفان – نموذج إنساني ملهم ليس للشباب فقط، بل لكل من يعرفه عن قرب.
هو حكاء من الدرجة الأولى، عقله متفتح وقلبه مفتوح وأفكاره منطلقة.
استفان، شاب أمريكي من أصل مكسيكي، عمره ٢٥ سنة، والده هاجر من المكسيك منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وتعرف على والدة استفان في مدينة صغيرة في وسط كاليفورنيا، وتزوجا، والده يعمل بالزراعة وقد اكتسب مهارات كثيرة وتطور في عمله حتى أصبح ناجحاً جداً في مجال الزراعة.
بدأ استفان حديثه باللغة العربية، وهو يقول: من المفارقات أنني لا اتحدث الإسبانية جيداً، لكن أفهمها، فكل السكان في مدينتي الصغيرة يتحدثون الإسبانية، لكنني من الجيل الثاني – حيث ولدت في أمريكا – وتعلمت وتخرجت من المدرسة الثانوية في هذه المدينة الصغيرة “بارلين ” في فريزنو. كنت عازفاُ لآلة الساكسفون بالفرقة الموسيقية بالمدرسة، وبعد ذلك حصلت على قبول للدراسة بجامعة كاليفورنيا بمدينة دافيس، لم يكن الأمر سهلاً، أن أخرج من بيتي لأول مرة وابتعد عن أهلي وانتقل إلى جامعة في مدينة أخرى وحدي – خاصة أنني الابن الوحيد، فعائلتي تفضل أن أكون بينهم دائماً، لكن كان عندي يقين أن هذه الخطوة ستفتح لي آفاقاً جديدة وعالماً آخر أكثر اتساعاً ورحابة، فأنا دائماً أريد الاكتشاف، واتخذت القرار وبدأت بالدراسات الثقافية الأمريكية الأفريقية. الحقيقة أن فترة الجامعة كانت ضاغطة وليست سهلة وهذا الضغط هو الذي جعلني أريد أن أثبت لنفسي ولمن حولي أن النجاح والخروج إلى عالم أوسع يستحق العناء والغربة.
في ذلك الوقت كنت شغوفاً جداً لأعرف أكثر عن الشرق الأوسط خاصة لأنني كبرت أثناء حرب العراق والتدخل الأمريكي في شئون الشرق الأوسط، كنت أريد أن أعرف حقيقة ما يجري، ولكن ليس من خلال الإعلام لأن دوره غالباً ليس موضوعي وله مصالحه، ولا يمكن الاعتماد عليه في وقت كانت الصورة رمادية وغير واضحة عن العرب، كان عقلي وأفكاري مفتوحة لهذا الشأن، لذلك بدأت دراسة اللغة العربية واخترتها منذ سبعة أعوام.
*سألته: هل كنت تتوقع انه سيأتي عليك يوم تتكلم وتفهم فيه العربية وتجري حواراً صحفياً باللغة العربية؟
بصراحة – عندما بدأتُ دراسة اللغة العربية لم يكن عندي أي توقع، فقط كنت مستعداً للتعلم بصدق، كانت عندي الرغبة والإصرار، كنت اجتهد، وكان أساتذتي يساعدونني كثيراً ولن أنسى فضلهم العظيم عليّ.
علاقتي باللغة العربية لم تتوقف عن دراستها لمدة ثلاث سنوات في جامعة كاليفورنيا، لأنني كنت أريد أن أمارس اللغة، أن أنخرط في الواقع الثقافي للغة العربية، وهو أمر لا يمكن تحقيقه بشكل فعال في الدراسة الأكاديمية، لذلك بدأت البحث عن المنح الخاصة بدراسة اللغات النادرة وبالفعل حصلت على أول منحة كاملة النفقات من وزارة الخارجية الأمريكية إلى سلطنة عمان عام ٢٠١٤. كانت هذه أول تجربة سفر لي خارج الولايات المتحدة الأمريكية في حياتي، بالإضافة إلى أنها إلى دولة عربية، بهرتني الطبيعة والأماكن الجميلة والجبال العالية هناك، وفاجأتني الثقافة، فلم يكن معتاد بالنسبة لي أن أرى النساء يرتدين العباءات وكلهن محجبات، شاهدت سلطنة عمان وناسها وأدركت مدى كرمهم وحسن ضيافتهم ومدى قبولهم للآخر.
وكان هذا البرنامج الصيفي فرصة عظيمة للتعرف على بعض جوانب الثقافة العربية في ثمانية أسابيع، ساعدني في هذا الاكتشاف شريكتي اللغوية ” سعاد”، وهي نموذج رائع للشابة العربية، قوية ومثابرة وجعلتني في فهم وإعادة نظر في مفهومي عن الشرق الأوسط، وأدركت أنه من الصعب، بل من المستحيل تعميم الحكم على الأفكار، فكل بلد له خصوصيته وطبيعة مشكلاته وثقافته، وأن الحكم بالتعميم على الشرق الأوسط أمر غير منطقي، وعند عودتي إلى أمريكا، كنت أقول لنفسي في الطائرة ” سأعود حتماً إلى الشرق الأوسط “.
ويواصل اِستفان حديثه قائلاً : لأنني كنت أدرس عن الدراسات الأمريكية الأفريقية ، وتخصصت في دراسة الاستعمار في أفريقيا والشرق الأوسط وتعلمت الكثير عن القضية الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي ، توسع بحثي ليس في الدراسات التاريخية فقط ، ولكن الثقافية أيضاً ، استمع إلى مارسيل خليفة وأحاول أن أفهم الألحان ، حتى وإن كانت الكلمات العربية صعبة علي وقتها ولكنني كنت أشعر أن طريقي للفهم يتعمق أكثر وأكثر ، بدأت أبحث عن الحركات الشعبية في الشرق الأوسط
( الهيب هوب ) وكيفية اختيار الشباب للفن المعارض للتعبير عن آرائهم والوقوف في وجه الرقابة والظلم ، وكنت محظوظاً بحصولي على أهم منحة من جامعة كاليفورنيا وأنا في السنة الثالثة ، وذهبت إلى الأردن عام ٢٠١٥ ، وتطورت لغتي العربية بشكل أفضل مما دفعني إلى قراءة الأدب العربي وكيف يكون الرمز والوصف فيها ، قرات لتوفيق الحكيم وسعد الله ونوس وزكريا تامر ، وكلما قرأت شعرت أنني أريد أن أقرأ وأفهم واتعلم أكثر.
بعد التخرج من الجامعة، لم يكن لدي تصور واضح عما أريد أن أفعله، الشيء الوحيد الذي كان واضحاً وبقوة هو أنني اريد أن أواصل معرفتي بالشرق الأوسط، وبدراسة اللغة العربية، وكنت محظوظاُ لمرة أخرى أن احصل على منحة فولبرايت من وزارة الخارجية لتدريس اللغة الإنجليزية في المغرب وبذلك سأتمكن من التواجد في بلد عربي ووسط الثقافة العربية.
رحلتي إلى المغرب كانت نقطة تحول نوعية في فهمي وتوثيق علاقتي بالشرق الأوسط، كانت التجربة صعبة في التواصل لأن اللهجة المغربية هي أربع لغات ممزوجة معاً (العربية والفرنسة والأمازيغية والإسبانية)، تعرفت على شريكتي اللغوية فايزة التي ساعدتني كثيراً في التواصل وتعلمت منها الكثير عن ثقافة المجتمع خاصة فيما يتعلق بالصعوبات التي تواجه النساء والمشاكل الاجتماعية والفساد.
كنت في مدينة مِكناس حيث إن معظم السكان من الأمازيغيين وهناك اندماج رائع بين العرب والأمازيغيين وكانت التجربة فريدة ومميزة بالنسبة لي مقارنه بكل تجارب السفر السابقة إلى الأردن وسلطنة عمان.
بحكم عملي كمدرس لغة إنجليزية في كلية ” مولاي إسماعيل “، اقتربت أكثر وأكثر من الشباب وأبهرتني قدراتهم على تجاوز الكثير من التحديات، فأغلبهم من سكان الجبال لكنهم متواصلون مع العالم والفن والموسيقى وعندهم أفكار وإبداعات وأحلام يريدون التعبير عنها، كل هذه الطاقة مكبلة بنظام تعليمي واجتماعي لا يسمح بالاختلاف أو بالمعارضة وتبادل الأفكار، فالطالب لا يمكنه أن يجادل الأستاذ أو يعبر بآرائه المعارضة.
الحد الفارق في هذه الرحلة هو أنني عملت هناك ن واقتربت أكثر من المجتمع وسكنت واقتربت من الشباب، وهذا هو الفرق بين أن تزور بلداً وأن تعيش فيه وتندمج في تفاصيله، أستطيع أن أقول لكِ أنني عشت هناك بمنطق المستشرق الذي يتعلم من خلال المعايشة.
يعبر استفان عن روعة المكان وسحره وجماله، وكذلك حزنه!!
فالحزن – كما يقول استفان منبعث من استحقاق الناس هناك – خاصة الشباب – أن يكون لديهم حرية التعبير بقدر ما يملكون من أفكار عظيمة وأحلام كبيرة.
وكما يقول استفان: كانت هذه هي مسئوليتي أن أتعرف وأعرف طلابي وأعرف عنهم أكثر، لم تكن المسألة بالنسبة لي مجرد اتواجد في بلد عربي أدرس فيه اللغة الإنجليزية وأتعلم خلال وجودي هناك الكثير عن اللغة العربية، ولكن ما يبقى أن أعرف وأفهم الناس وأصل إليهم وإلى ثقافتهم التي لا نعرف عنها الكثير في أمريكا.
يحكي استفان عن واحد من طلابه اسمه حسن قائلاً : “لقد دعاني حسن إلى قريته التي تقع على ” الأطلس المتوسط ” وكما يسمونه ” المغرب المنسي ” لشدة الفقر المدقع هناك ، وعندما ذهبت مع حسن عرفت معنى جديداً عن الحياة ، معنى أن يعيش الناس معاناة لا حدود لها ، لكنهم يحملون من الروعة والكرم وسمات الشخصية والقوة والتقبل والكرامة وعزة النفس مالا يمكن تصوره ، هذا ما عايشته في قرية حسن ذات البيوت الطينية البسيطة جداً ، الثرية بالحفاوة وحُسن الضيافة ، أتذكر أن أخت حسن قالت لي : اِطلب ما شئت من الطعام وسنعده لك ، وبالفعل ، لم أذق طعاماً بالمذاق الرائع كالذي أكلته في بيت حسن في قريته في
” المغرب المنسي “.
هذه كانت قيمة رحلتي في المغرب لمدة عام، هي زيارتي لأماكن ومدن كثيرة ومعرفة ناس نادرين وتعلم معاني إنسانية راقية وخاصة جداً ثم أضيف عليها تطويري للغة العربية وكذلك تعلمي للهجة المغربية والأمازيغية.
كانت هذه الرحلة أحد نقاط التحول في حياة اِستفان، ومن بعد عودته إلى أمريكا، بدأت رحلة أخرى، رحلة عمله مع اللاجئين ورحلة هذا الشاب الرائع من دارس للغة العربية إلى مدرس اللغة العربية.
عاد آستفان من المغرب والتحق بعمل شديد الخصوصية والأهمية وهو مساعدة اللاجئين الأفغان والسوريين وقد اكتسب خبرات إنسانية وثقافية أعمق.
ولم يكتف بهذا، حصل استفان على منحة دراسة الماجستير في أهم برامج تدريس اللغات في جامعة ميدلبري بكاليفورنيا وقد أتم رسالة الماجستير، حصل على ٌعجاب وتقدير أساتذته العرب المتخصصين في اللغة العربية وقبل كتابة هذا الموضوع وإتمامه قد أبلغني استفان أنه قد تمت الموافقة على رسالة الدكتوراه التي سجلها في نفس الجامعة للحصول على الدكتوراه في تدريس اللغة العربية كلغة أجنبية لغير الناطقين بها.
استفان الذي درس العربية منـذ حوالي ٧ أعوام ـ هو الآن أستاذاً مؤهلاً بجدارة لتدريس اللغة العربية.