تشتري ” حضن” بـِ50 دولار؟


 على الرغم من أن المجتمع الأمريكى بكل انفتاحاته الصادمة أحياناً كثيرة، إلا أن بعض (البني آدمين) فيه غاية فى الانعزالية؛ يعاني بعضهم من عدم القدرة على التواصل الاجتماعى المباشر، أذهلنى كم القصص التى سمعتها وعرفتها عن مواطنين أمريكيين فى مختلف الأعمار يديرون حياتهم من خلال المواقع الإلكترونية، بداية من شراء البيت والسيارة والقط والكلب وانتهاء بشراء الحضن. نعم.. بعضهم و لفرط عزلتهم أصبحوا يشترون الحضن.. الحضن بـ50 دولارًا . والمقصود بالحضن هنا مجرد الحضن وفقط.

قائمة كريجز أو Craigslist هو واحد من المواقع الأكثر انتشاراً وشيوعاً بين المجتمع الأمريكى لتكوين علاقات جديدة، وأشكال العلاقات على هذا الموقع شديدة الغرابة ودالة على أن النواقص الإنسانية كثيرة وأن البشر هم البشر فى كل مكان يحتاجون إلى مشاعر مفقودة لديهم وتصبح أقسى أزماتها أنهم يحتاجون إلى من يسمعهم.

” نعم نحن البني آدمين محتاجين نتسمع ونتشاف “!

فى ولاية كاليفورنيا يشاع أنها من أكثر الولايات استخداماً لهذه المواقع وتحديداً فى مدينة سان فرانسيسكو، تلك الولاية التى تعد من أغلى الولايات الأمريكية ونظرا لغلاء الحياة فإن هناك البحث الدائم عن البدائل الاجتماعية والإنسانية بطريقة افتراضية، حيث إن دائرة العمل لا تعطى مجالا رحباً للتنزه أو فرص اللقاء لإنشاء علاقات من خلالها، ويطلق على مدينة سان فرانسيسكو مدينة الأفراد والشباب و إما المسنين، فهى مدينة يعمل بها المتخصصون حديثو التخرج فى مجال التكنولوجيا والهندسة ولأن البيوت هناك غالية جداً وصغيرة للغاية رغم تكلفة الإيجارات، فمن الصعب أن تجد أسرة كاملة تعيش بشكل دائم فى سان فرانسيسكو، فهى إما مدينة العجائز (حيث يعيش رجال مسنون وزوجاتهم) منذ زمن طويل أو من قرروا الاستقرار فى تلك المدينة الساحرة المدهشة بعد فترة من البقاء فى ولايات أخرى أو تسمى مدينة الشباب التى يعيشون فيها لفترة فى مهمة عمل ما، وخلال هذه المهمة التى يقضيها الشاب أو الشابة فى هذه المدينة يبحثون عن علاقات إنسانية ولو مؤقتة تملأ الفراغ العاطفى والوجدانى لديهم، وهؤلاء الشباب يضطرون إلى البحث عن هذا الونس عبر المواقع الإلكترونية، الأستاذ الجامعى الشاب الذى لم يتجاوز عمره الثلاثين وأستاذه الذى قارب عمره على السبعين، كلاهما يتحدثان إلى بعضهما البعض عن تجربتهما فى اختيار صديقة عبر موقع قائمة كريجز، الشاب الصغير يقول إنه يتحدث إلى تلك الفتاة منذ شهر تقريباً من خلال الموقع الذى يقوم بعملية التوافق المبدئى والانتقاء للشخصيات المشتركة فى هذا الموقع من الرجال والنساء، وبعد فترة قرر ذلك الشاب أن يقابل تلك الفتاة للتعارف أكثر، وأخذ يتحدث عن أنه لا بد من أن يوفر بعض المال لقلة إمكاناته حتى يتمكن من دعوتها فى أول لقاء، وكان يحكى لصديقه الكبير بعد مرور أيام من اللقاء أنه لم يشعر بتوافق وانسجام مع تلك الشابة وأنه حزين قليلا لمبلغ التسعين دولاراً الذى قام بإنفاقه بلا جدوى، على الرغم من أن البعض الآخر من المتقابلين يقومون باقتسام فاتورة الطعام أو الشراب حتى ولو فى أول لقاء. ويحكى الرجل الكبير فى نفس الوقت أن صديقته التى عاش معها لمدة ثلاثة أعوام فى قصة حب بدأت من خلال هذا الموقع، وكان مدافعاً بشدة أن هذا الموقع أو ما يشابهه فرصة رائعة للناس أن يقوموا بالتعرض لكثير من الأنماط المتعددة من الجنس البشرى وكل منا يمتلك العقل للاختيار وفق معطيات كثيرة.

• علامات غريبة

والمعطيات فى هذا الموقع شديدة الغرابة.. فهناك اختيار وقائمة لمن يريد المواعدة فقط، وقائمة لمن يريد الزواج، وقائمة لمن يريد علاقات صداقة فقط وليست علاقة عاطفية، وقائمة لمن يريد بيع أو شراء الجنس فحسب، وقائمة لمن يريد الفضفضة أو المقابلة لمرة واحدة للحكى، وتحت قائمة الحكى تندرج أمور وموضوعات كثيرة، فهناك من يبحث فى الموقع عن شخص يتحدث إليه فى أموره المهنية أو عن علاقاته العاطفية، أو الحديث عن الوحدة، أو كيفية تجاوز الغضب، أو أى موضوع آخر، كل محاور الحياة وأغلبها يمكن أن تناقشها عبر الموقع الإلكترونى والعالم الافتراضى أو باختيارك أن تطور العلاقة وتقابل الشخص وجها لوجه.

كما أن هذا الموقع يسمح للعلاقات المثلية، والشاذة أيضا.. أمر مذهل أن يختار البشر وسائل شديدة الغرابة لممارسة الحياة بشكل غير مألوف، والأغرب هو أن يرى العقل الجمعى أن التعامل فى إطار هذه المواقع هو أمر عادى وبديهى.

سيدة أمريكية تحكى أنها بعد وفاة زوجها، لا تريد الدخول فى أية علاقة عاطفية طويلة المدى بعد زوجها، و تشعر بأن احتياجاتها كامرأة أمر آخر منفصل، لهذا تلجأ إلى هذا الموقع لعمل علاقة سريعة غير ملزمة قد تستمر أسبوعاً أو أكثر، وإذا شعرت بأى تورط عاطفى تجاه ذلك الشخص، تبدأ فوراً فى البحث عن رجل آخر، لأنها قررت ألا ترتبط عاطفياً بعد زوجها.. غريب أمر العقل البشرى الذى يتحول إلى الآلة التى تجعله يتحرك وفق أزرار ضاغطة فحسب. والمدهش أن البشر قادرون على فلسفة تلك الأمور وكأنهم يبحثون عن معانٍ للحياة وللعلاقات حتى وإن بدت غريبة بالنسبة لنا. لكن أصبح كل شىء ممكنا فى هذا الوجود الإنسانى.

حضن مجاني أو مدفوع

حكت لى صديقة أن هناك موقعًا جديدًا ذاع شيوعاً وانتشاراً بين المجتمع الأمريكى، وبدأت الفكرة عند سيدة خمسينية العمر، إذ صممت موقعا (للأحضان) لأنها ترى أن البنى آدمين أكثر ما يفتقدونه هو (الحضن والاحتضان) بلا مقابل، وقد خصصت هذه السيدة خدمة الحضن لمدة ساعة أو أقل، على أن تكون العاملة أو الموظف فى هذا الموقع قادرًا على الاستماع بقلب وبصدق لمن يحتاج الحضن. وقد حقق هذا الموقع وتلك السيدة أرباحا كثيرة من خلال. البيزنس وفق ما تحتاجه السوق البشرية. العجيب أن هناك أيضاً إعلانات كثيرة عن ” الأحضان المجانية ” – وربما يصادفك وأنت تسير في الشارع فتاة جميلة أو إمرأة تحمل لافتة ” free hugs” -فهي تتطوع بالحضن المجاني لمن يحتاجه وربما هي التي تبحث عن ذلك الحضن وكثيراً ما أسأل نفسي هل هذه تقليعة أو شطحة من شطحات المجتمع الليبرالي أم أنه فعل إنساني خيّر – أفهم أن هناك احتياج حقيقي للحضن ولكن هل هناك رغبة حقيقية للتبرع بالحضن لمن لا تعرفه من قبل؟!

  • اِستشارة حياتية

حديثاً قام رجل بتخصيص خدمة التواصل عبر الكتابة والمراسلات الإلكترونية فقط لمن يريد أية استشارة حياتية، مع الوضع فى الاعتبار أنه ليس متخصصاً أو دارساً، وبالفعل يتلقى ذلك الشخص رسائل كثيرة ويعطى نصائحه لمن يريد، ويتواجد على الموقع ما يسمى بشهادات القراء عما إذا كانت تلك الخدمة جيدة أم لا!

لا تخلو جلسة أو لقاء بين كثير من الأمريكيين ألا ويتحدثون عن أمر من أمور المعاملات التجارية أو الإنسانية عبر موقع قائمة كريجز.

بعيدا عن ذلك الهوس الإلكترونى، ذلك الشعب له قدرة على الوصول إلى أقصى درجات الهوس بالحياة والجنون رغم تركيباتهم الانعزالية الواضحة، لكن يبقى شىء أساسى يسمح لهم بأن يختبروا روعة الحياة وقسوتها.

  • إنسانية الحياة

فى أحد التجمعات التطوعية الهندية لجمع التبرعات لصالح مجموعة من الأطفال الفقراء، أقاموا مهرجان الألوان، وهذا المهرجان فى أحد الميادين الواسعة، يشترى الناس الألوان التى يمكن غسلها، وفكرة أن يقوم كل الناس برش بعضهم البعض بالألوان البودرة فى حالة من المرح والبهجة، كبارًا وصغارًا وعجائز، الكل يشترى الألوان ويمشى فى الشوارع ويلتقطون الصور ويرقصون ويدفعون أموالا للتبرع لصالح الأطفال، وتأتى وتذهب العائلات ويأتى غيرهم فى جو احتفالى مبهج يعلى قيمة مساعدة الآخر وفق منظومة اجتماعية متفق عليها من أهل الحى أو المدينة.

إنهم البشر بكل ما يحملونه من متناقضات وارتقاء أخلاقى أحياناً وازعاج إنسانى أحياناً أخرى. ولكن ربما ما يبقى مشتركاً بينهم هو أن أغلبهم يريدون ممارسة الحياة بكل شطحاتها ( الشئ وعكسه)!

فمهما اختلفت جغرافية رقعة الأرض تبقى هناك قواسم مشتركة بين البني آدمين- مهما كانت الاختلافات والتصنيفات – إلا أن لديهم نفس الهم ونفس الشغف بتباين سيناريوهاته – محاولين البحث عن أنفسهم وعن المعنى ( التائه وربما المفقود أحياناً).

كانت هذه مجرد نظرة من بعيد لا تحمل أحكاماً ولا تدعي حقائق ثابتة.