قد أصاب من قال إن الإنسان كتاب كبير.. «قد يكون مفتوحاً وسهلاً قراءته، وقد يكون صعباً ومفرداته مركبة يصعب علىالآخر فهمها»، دعنا نتفق بشكل أساسى على أن الإنسان «كتاب» بصفحات لا نهائية، ممتدة بامتداد حياته، وأنه قادر على ملء صفحاته بقصص وخبرات وأفكار ومشاعر وصراعات بداخله وشطحات جنونية، كل منا قادر على أن يخط كتابه بطريقته، وكلها حالات إبداعية لا محدودة خلقها الله. أعطانا القدرة على أن يكتب كل منا كتاب «ذاته»، وربما يقرأ سطوراً وصفحات من كتابه إن أراد هذه الرؤية الخاصة شديدة الإنسانية أصبحت مشروعاً إبداعياً رائعاً بدأته المخرجة والممثلة Fanny de Chaille المسرحية الفرنسية.
ويحمل هذا المشروع اسم «المكتبة» ولكنها مكتبة من «لحم ودم وحواس وتفاعل إنسانى».. البشر هم الكتب أنفسهم.. هم الذين يحكون ويعرضون صفحات وموضوع كتبهم بأنفسهم لجمهور لا يعرفونهم على الإطلاق.. قد تكون هذه الكتب «البشر» يعرضون موضوعًا لقصة حياتهم، لموقف حدث لهم، لإحساس ما، لفكرة تشغلهم، لتداعيات فى ماضيهم.. أما القراء.. نحن الجمهور الذى يستعير الكتاب «بلحمه ودمه»، فينال فرصة الجلوس أمامه لمدة عشرين دقيقة يستمع لعرض الكتاب وله حق مناقشته والتفاعل معه.
الكتاب يحكى نفسه
هذه الفكرة البديعة التى بدأتها «فانى دى شاييه»، Fanny de Chaille كانت فى فرنسا، وعرضت هذه التجربة فى Pompidou أى المركز الوطنى للفنون والثقافات الذى يعد أحد أهم المراكز الثقافية فى باريس، ونالت الفكرة إقبالاً واستحساناً من الجمهور، ولإيمان «فانى»، بأن الإنسان «كتاب» أياً كان موطنه، فمن حقنا نحن «الكتب البشرية» أن تكون لنا الفرصة والقدرة على أن نحكى ونسمع ونقرأ بعضنا «إنسانيا» بطريقة ما بعيدة عن الأحكام المسبقة وبعيداً عن استسهال التصنيف.
كانت الفكرة الأهم لـ Fanny أن يكون الحكى «حقيقياً» باستخدام الحواس التى خلقها الله لنا للتواصل، وأن نخرج عن دائرة الحكى والتواصل والمعرفة الإنسانية عبر الفضاء أو العالم الافتراضى، والفرق شاسع بين «التواصلين»
وبالفعل بدأت «فانى دى شاييه» أن تفعل فكرة مشروعها الإبداعى «المكتبة» فى بعض دول العالم وبعض الدول العربية، وخلال الأيام القليلة الماضية كانت «المكتبة» أحد أهم فعاليات مهرجان «دي – كاف» وهو مهرجان وسط البلد للفنون المعاصرة، يعد هذا المهرجان شديد التميز والاستثنائية فى عرض أشكال مغايرة ومتنوعة من الفنون البصرية والسمعية المعاصرة، الذى يرأسه الكاتب والمخرج المتميز أحمد العطار، ويعاونه نخبة من الشباب
والموهوبين والمتميزين بإبداعهم وأفكارهم فى مجالات عديدة.
لمزيد من المعلومات عن فان دي شاييه:
بنات إيزيس
كان لى حظ أن أتجول فى «مكتبة البنى آدمين» داخل قاعة بالجامعة الأمريكية، حيث يقف الجمهور أمام أمين المكتبة ليختار الكتاب الذى يود أن يجلس أمامه لمدة عشرين دقيقة يستمع فيها إلى عرضه وقصته
وبالفعل قرأت أكثر من خمسة كتب تحمل أسماء جذابة قررت أن أعرف عنها مثل: بنات إيزيس من تأليف إيناس لط ويحكى قصة فتاة بطرف صناعى، وكيف أنها خلقت علاقة ودودة بينها وبين ساقها الحديدية، وكيف أن قسوة البشر قد عرضتها لتحرش داخل أتوبيس عام، وكيف أنها فقدت الثقة بالناس، ولكنها قابلت سيدة تعاطفت معها وحكت لها عن قصتها ومعاناتها، فأدركت أنها ليست وحدها فى الحياة، وكيف أن المرأة قادرة على كسر وتجاوز مخاوف وآلام كثيرة فى حياتها.
ومن الكتب التى استوقفتنى وأمتعتنى كتاب «نيويورك نيويورك» لإبراهيم زغو، ذلك الشاب الذى يحكى فصولاً من قصته وخبرته عندما أراد أن يبحث عن ذاته بعيداً عما يرسمه له الأهل من طريق سهل اتباعه والنجاح فيه، لكنه كان يبحث عن السؤال الأعمق بداخله: ماذا أريد أن أكون؟ وما الذى سيسعدنى فى الحياة؟.. وكان هذا الكتاب أكثر ما لمس عقلى وقلبى، ربما لبراعة الراوى «إبراهيم زغو» فى أنه يحكى بطريقة بصرية وبقدرة محفزة على التفاعل معه.
التواجد
وقد شدنى اسم كتاب «التواجد فى حياة أخرى» للشابة هالة فؤاد، وكان تصورى أننى سأستمع إلى عرض كتاب فلسفى، لكنه كان شديد البساطة ويحكى عن خبرتها لأول مرة تسافر فيها خارج مصر، وتحديداً إلى ألمانيا فى رحلة عمل قصيرة لمدة أسبوع، وكيف أن مشاهداتها لنمط الحياة اليومية هناك دفعتها إلى الشعور كأنها موجودة فى حياة أخرى قررت أن يكون موضوع كتابها تحكى عنه بطريقتها البريئة البسيطة.
وكتاب آخر جذب انتباهى وهو «قوس رءوف» للشاب رءوف أغا، وقد اختار رءوف أن يكون كتابه مشاهد فاصلة ومحورية فى حياته كضربة السهم من القوس، بداية من فقدان حلمه ليكون لاعباً محترفاً لكرة القدم لاعتراض والده، انتهاء بفقدان حبيبته التى تصور مستقبله معها، كان يحكى رءوف ويعرض تلك المشاهد بقدرة واعية على التحليل وقد اختار أن يكون عرضه لكتاب ذاته دون مقاطعة، وبالفعل حكى بطريقة سلسة ومشوقة، وبها تصالح واضح مع كل الأحداث الموجعة والفارقة فى حياته
! سعيد لا.. حر نعم
أما الكتاب الأخير الذى حصلت عليه فكان كتاب «سعيد لا.. حر نعم» للكاتب أيمن صبحى، وهو ممثل مسرحى ومطرب، وحكى عن إحساسه بالوحدة والعزلة، وعن علاقته بنفسه وكيف أنه يحاول كسر ذلك الحاجز، رغم كل الحرية التى يمتلكها إلا أن إحساسه بافتقاد السعادة هو أمر مؤرق له، لم يتجاوزه بعد، ويحكى عن محطات فى حياته، ظل يحكى أيمن ويغنى كجزء من رواية وعرض كتابه، لكن الوقت انتهى دون أن يكمل الكتاب وكان ذلك دليلاً على أن الكتاب كان مشوقا، لكن الحظ لم يسعنى لاستكماله.. فيبقى السؤال: ترى ماذا الذى يجعل أيمن صبحى.. سعيدًا وحرًا فى آن واحد؟
المدهش أن مبدعة التجربة «فانى دى شاييه» لم تختر محترفين، بل تعتمد على أن تنشر إعلاناً للاشتراك فى هذه التجربة لمن يريد بشرط أن تكون لديه الرغبة فى أن يكون كتاباً لذاته، وعليه أن يختار اسماً وعنواناً لكتابه، وأن يرغب فى المشاركة فى الحكى وعرض الكتاب لآخرين، وأن يكون لديه الوقت لحضور جلستين تحضيريتين لساعات قليلة للتدريب، إنها شروط – إن جاز التعبير- تنطبق على بشر كثيرين لديهم الرغبة الحقيقية فى الحكى، والاستماع والاستمتاع ببراح الحكى.. ولكن الأهم أن يكون لديه ما يحكيه.
أجمل ما فى هذا المشروع الإبداعى أنه يعطى لمن يشارك فيه سواء كان الشخص «الكتاب» نفسه أو «القارئ».. إحساس أننا وحدنا فى هذا العالم.